ليست هذه المقالة لبسط الحديث في العلمانية ونقدها, وقد أريق في سبيل ذلك حبر غزير, ولكنها محاولة لتصويب بعض النظرات والآراء والأفهام التي تتكرر من علمانيين دون مراعاة لتطورات واقعية.
في العالم العربي والإسلامي, أو انتباه إلى خصوصية الإسلام.
ومن أهمها ادعاؤهم أو اصطناعهم التفريقَ بين الإيمان والرسالة, من جهة, والشريعة التي تعم من جهة أخرى.
ففي ندوة عقدت في القاهرة بين علمانيين وإسلاميين تحت عنوان "مساحات الاتفاق والاختلاف عند الإسلاميين والعلمانيين"، ونظمتها مؤخرا مؤسسة "عالم واحد"، بالتعاون مع مؤسسة "كونراد أديناور" الألمانية. شهدت الندوة حواراً ساخناً حول جدلية العلاقة بين الدين والدولة من وجهة نظر الإسلام والعلمانية.
وبينما تركز حوار العلمانيين حول إشكالية الدين بالدولة، وضرورة التفريق بين معنيين للدين ،الأول: هو الإيمان، الذي هو ـ من وجهة نظر العلمانيين ـ إخبار وبيان لرسالة، أي دين، والثاني: الدين، بمعنى المعتقد.
مؤكدين أنه لا يوجد أي خلاف بين الدين بمعنى الإيمان والعلمانية، أي أن يعيش الناس في دولة مدنية، لا علاقة لها بالمعتقدات، أما الخلاف فيظهر إذا فرض المعتقد على المجتمع ككل، وبالتالي تتولد الأفكار المتطرفة التي تدعو إلى التكفير والصراع.
وأقتصر في هذه العجالة على حصر النقاش في هذه الجزئية, ولْأطرحِ السؤال: هل ثمة مُكْنةٌ في الإسلام لفصل المعتقد عن الشريعة؟ وإذا لم يكن؛ فهل يستطيع مؤمنٌ بالإسلام أن ينادي بالعلمانية، أو يقبل بها؟
وقبل الإجابة، أسأل هل موضوع السؤال، مَحَلُ خلاف، أو اختلاف، أم هو من الواضحات والمسلمات؟
أما وضوحه فمسألة مفروغ منها، بنص الآيات ذوات الدلالة الواحدة، من مثل قوله تعالى:" ألا له الخلق والأمر" وقوله تعالى:"إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه", وقوله –سبحانه- : "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول".
وقوله -جل ثناؤه-:"وأنِ احكم بينهم بما أنزل الله" إلى غير ذلك من النصوص التي تنطوي على أمر بتحكيم الشريعة في كل أمر, أو شيء، متنازع عليه.
فهي عامة في كل أمر من أمور الحياة في الاقتصاد, أو في الاجتماع، أو السياسة, أو التعليم، أو الأخلاق, أو القضاء, أو غيرها، وهي تحصر المرجعية في الحكم بالشرع, وهذا مما اتفق عليه علماء الفقه والتفسير والأصول والتوحيد على مر تاريخ الأمة. فالمسألة عند المسلم محسومة، فمعتقدُه وثيق الصلة بشريعته، لا يكتمل إيمانُه إلا بالعمل، ولا تكتمل عبوديتُه إلا بالاهتداء بأحكام الشريعة.
وعلى ذلك؛ فلا نستطيع أن نطالب المسلم بقبول الفصل بين العقيدة والشريعة، إلا ونحن نضمر استخفافاً مقصوداً، أو بجهل، لخصوصية الإسلام الذي ظل يحتفظ بتفصيلات تشريعية لتفاصيل الحياة اليومية، ولديه إجابات ونموذج متجانس من الأحكام وفي بعض البلدان الإسلامية تكتسب الصفة القانونية، على تفاوت بينها في ذلك.
ليست هذه الفكرة التي يسوقها العلمانيون، بالطبع، الوحيدة في تلك السجالية التي لا تكاد تخبو بينهم، وبين الإسلاميين, فكثيرا ما ينحو النقاش منحى انفعاليا يحرمه الوصولَ إلى حقائق علمية, أو تقرير فوائد قد تمثل خطوة, أو خطوات على الطريق.
وبعيدا عن الانفعال، أود أن أسأل كل علماني ينطلق من منطلقات غربية، ومعطيات أفرزتها الحضارة الغربية في ظروف تاريخية خاصة, ماذا تقول لهؤلاء الجموع من المسلمين الذين ما زالوا يدينون بعقيدة الإسلام، ويستعدون للاهتداء بما انبثق عنها من أحكام؟! هل تطلب منهم بجرة قلم أن يضربوا صفحا عن هذا؟!
هنا تبرز دعاوى أخرى من قبيل الحرص على التفكير العقلاني والتنويري؛ وثماره العلمية والتقنية المتقدمة، كما ينهض الاهتمام بالخطاب الإنساني، بما ينطوي عليه من مكتسبات إنسانية وحقوقية للرجل والمرأة.
ولا يتسع المقام لمناقشة تَيْنك الدعوتين، ولكنهما محل جدل كبير، ومن الإجحاف الإيهامُ بوصولهما إلى ركن المسلمات. أما التقنية العلمية فلا يربطها بالدين، أو بالفكر رابط منطقي مباشر، وإن كان يمكن أن يحفز، أو ينظم، لكنها ليست علاقة سببية، والشواهد التاريخية والواقعية تنطق بذلك، وسأتجاوز البحث الفكري، فالحضارة الإنسانية ما انفكت تراكمية.
لا تجد الأمم غضاضة في الإفادة من مخالفاتها، أو حتى مناقضاتها، وحتى المسلمون، لم يجدوا ضيرا في الانتفاع من الإرث العلمي الإغريقي، وغيره، ولم تمنعهم عقيدتهم، أو شريعتهم من تنقيح تلك العلوم، والتأسيس عليها، وتطويرها.ولا داعي للإفاضة في سرد منجزات المسلمين العلمية والتقنية، سواء في المشرق الإسلامي، بغداد، مثلا، أو في المغرب، الأندلس، مثلا...
وفي العصر الحديث لم يكن التباينُ، بَلْه، التناقضُ بين الماركسية الاشتراكية, والديمقراطية الرأسمالية حائلا دون اشتداد التنافس التقني بينهما، ثم تبين، بعد برهة في ميزان أعمار الدول والأفكار إخفاقُ الفكرة الماركسية الاشتراكية في الصمود أمام تحديات الواقع.
ولم يكن ذلك قد أثر في التسبب بتراجع علمي، أو تقني بيٍّن، قبل ذاك الانكشاف، فالنهضة العلمية متوقفة على حالة من التجانس الفكري، وشرط من التنظيم، ولو لم يكن الأصوب، أو حتى الصواب.
أما الجانب الإنساني والمجتمع المدني، وسيادة القانون، ومعاني المساواة والعدالة، واحترام إنسانية الرجل، كما إنسانية المرأة، وتساويهما في الإنسانية فَمعانٍ لا تَحْتَكرُ ادعاءها العلمانيةُ، وإن كان لها مفهومها الخاص عنها. ولغيرها، كالإسلام رؤيتُه كذلك.
بقيت ملحوظة معروفة، ولكن تأكيدا، أن تطبيق الإسلام، بالنسبة لغير المسلم، لا يجبره على اعتناقه، أو تبني أفكاره، وهو، في ظل دولته، وقوانينه، مواطنٌ كامل المواطنة، أمام القانون، وأمام الدولة، وقد لا يضيره، أن يتعاطى مع الإسلام من الوجهة الحضارية، والثقافية.
ولولا تعصب زائد من بعض أبناء المسلمين من (العلمانيين) لرأوا في تعاطي دول غربية مع الأنظمة والحلول الإسلامية، من مِثْل الاقتصادية والمالية، نموذجا لتحري الحق، دون تشنج، أو مواقف مسبقة، وأحكام انتقائية, تتعمد التندر والسخرية، وتغض الطرف عن ثروة فقهية قانونية عامرة.
الكاتب: د/ أسامة عثمان
المصدر: موقع إسلام ويب